فصل: الضرب الثالث حذف المفعول به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.الضرب الثالث حذف المفعول به:

وذلك مما نحن بصدده أخص، فإن اللطائف فيه أكثر وأعجب، كقولنا فلان يحل ويعقد، ويبرم وينقض ويضر وينفع، والأصل في ذلك على إثبات المعنى المقصود في نفسك للشيء على الإطلاق.
وعلى هذا جاء قوله تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا}.
ومن بديع قوله عزوجل: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاع وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} فإن في هاتين الآيتين قد حذف المفعول به في أربعة أماكن، إذ المعنى وجد أمة من الناس يسقون مواشيهم، وامرأتين تذودان مواشيهما، وقالتا لا نسقي مواشينا فسقى لهما مواشيهما، لأن الغرض أن يعلم أنه كان من الناس سقي ومن الامرأتين ذود وأنهما قالتا لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء وأنه كان من موسى عليه السلام بعد ذلك السقي، فأما كون المسقي غنما وإبلا أو غير ذلك فخارج عن الغرض.
وقد ورد في الشعر من هذا النوع قول البعيث بن حريث من أبيات الحماسة:
دعاني يزيد بعد ما ساء ظنه ** وعبس وقد كانا على جد منكب

وقد علما أن العشيرة كلها ** سوى محضري من حاضرين وغيب

فالمفعول الثاني من علما محذوف، لأن قوله أن العشيرة في موضع مفعول علما الأول، وتقدير الكلام قد علما أن العشيرة سوى محضري من حاضرين وغيب لا غناء عندهم، أو سواء حضورهم وغيبتهم، أو ما جرى هذا المجرى.
ومن هذا الضرب أيضاً حذف المفعول الوارد بعد المشيئة والإرادة كقوله تعالى: {لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} فمفعول شاء هاهنا محذوف، وتقديره ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها.
وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} ومما جاء على مثال ذلك شعرا قول البحتري:
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ** كرما ولم تهدم مآثر خالد

الأصل في ذلك: لو شئت ألا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، فحذف ذلك من الأول استغناء بدلالته عليه في الثاني.
وقد تقدم أن من الواجب في حكم البلاغة ألا تنطق بالمحذوف ولا تظهره إلى اللفظ ولو أظهرت لصرت إلى كلام غث.
ومجيء المشيئة بعد لو وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معداة إلى شيء كثير شائع بين البلغاء ولقد تكاثر هذا الحذف في شاء وأراد حتى إنهم لا يكادون يبرزون المفعول، إلا في الشيء المستغرب، كقوله تعالى: و{لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء} على هذا الأسلوب جاء قول الشاعر:
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ** عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

فلو كان على حد قوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} لوجب أن يقول: ولو شئت لبكيت دما، ولكنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى هذه لأنه أليق في هذا الموضع، وسبب ذلك أنه كان بدعا عجيبا أن يشاء الإنسان أن يبكي دما، فلما كان مفعول المشيئة مما يستعظم ويستغرب كان الأحسن أن يذكر ولا يضمر.

.الضرب الرابع وهو حذف المضاف والمضاف إليه:

وإقامة كل واحد منهما مقام الآخر، وذلك باب عريض طويل شائع في كلام العرب، وإن كان أبو الحسن الأخفش رحمه الله لا يرى القياس عليه.
فأما حذف المضاف فكقوله تعالى: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون} فحذف المضاف إلى يأجوج ومأجوج، وهو سدهما، كما حذف المضاف إلى القرية في قوله تعالى: {واسئل القرية} أي: أهل القرية.
ومن ذلك أيضاً قوله عزوجل: {ولكن البر من اتقى} أي: خصلة من اتقى، وإن شئت كان تقديره ولكن ذا البر من اتقى، والأولى أولى، لأن حذف المضاف ضرب من الاتساع، والخبر أولى بذلك من المبتدأ لأن الاتساع بحذف الأعجاز أولى منه بحذف الصدور.
وقد حذف المضاف مكررا في قوله تعالى: {فقبضت قبضة من آثر الرسول} أي: من أثر حافر فرس الرسول، وهذا الضرب أكثر اتساعا من غيره.
ومما جاء منه شعرا قول بعضهم من شعراء الحماسة:
إذا لاقيت قومي فاسأليهم ** كفى قوما بصاحبهم خبيرا

هل اعفو عن أصول الحق فيهم ** إذا عسرت وأقتطع الصدورا

أراد أنه يقتطع ما في الصدور من الضغائن والأوغام: أي يزيل ذلك بإحسانه من عفو وغيره، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
أما حذف المضاف إليه فإنه قليل الاستعمال: {لله الأمر من قبل ومن بعد} أي: من قبل ذلك ومن بعده.
وربما أدخل في هذا الموضع ما ليس منه، كقوله تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} قيل: أراد ظهر الأرض فحذف المضاف إليه وليس كذلك، وفإن الهاء والألف قائمة مقام الأرض، ألا ترى أن قوله: {ظهرها} يريد الأرض، لأنه ضمير راجع إليها.
وكذلك ورد قول جرير:
إذا أخذت قيس عليك وخندف ** بأقطارها لم تدر من أين تسرح

.الضرب الخامس وهو حذف الموصوف والصفة:

وإقامة كل منهما مقام الأخر، ولا يكون اطراده في كل موضع، وأكثره يجيء في الشعر، وإنما كانت كثرته في الشعر دون الكلام المنثور لامتناع القياس في اطراده.
فمما جاء منه في الشعر قول البحتري في أبيات في صفة إيوان كسرى، فقال في ذكر التصاوير التي في الإيوان وذلك أن الفرس كانت تحارب الروم فصوروا صورة مدينة أنطاكية في الإيوان وحرب الروم والفرس عليها، فمما ذكره في ذلك قوله:
وإذا ما رأيت صورة أنط ** كية ارتعت بين روم وفرس

والمنايا موائل وأنوشر ** وان يزجي الصفوف تحت الدرفس

في اخضرار من اللباس على أص ** فر يختال في صبيغة ورس

فقوله على اصفرار أي: على فرس أصفر، وهذا مفهوم من قرينة الحال، لأنه لما قال على اصفرار علم بذلك أنه أراد فرسا أصفر.
والصفة تأتي في الكلام على ضربين: إما للتأكيد والتخصيص، وإما للمدح والذم، وكلاهما من مقامات الإسهاب والتطويل، لا من مقامات الإيجاز والاختصار، وإذا كان الأمر كذلك لم يلق الحذف به، هذا، مع ما ينضاف إليه من الالتباس وضد البيان، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بطويل لم يبن من هذا اللفظ الممرور به إنسان هو أم رمح أم ثوب أم غير ذلك، وإذا كان الأمر على هذا فحذف الموصوف إنما هو شيء قام الدليل عليه أو شهدت به، وإذا استبهم كان حذفه غير لائق.
ومما يؤكد عندك ضعف حذفه أنك تجد من الصفات ما لا يمكن حذف موصوفه، وذاك أن تكون الصفة جملة، نحو: مررت برجل قام أبوه، ولقيت غلاما وجهه حسن، ألا تراك لو قلت: مررت بقام أبوه، ولقيت وجهه حسن، لم يجز.
وقد ورد حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير موضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} فإنه لم يرد أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء، وإنما يريد آية مبصرة، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.
ولقد تأملت حذف الموصوف في مواضع كثيرة فوجدت أكثر وقوعه في النداء وفي المصدر، أما النداء فكقولهم يا أيها الظريف، تقديره: يا أيها الرجل الظريف، وعليه ورد قوله تعالى: {يا أيها الساحر} تقديره: يا أيها الرجل الساحر، وكذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} تقديره: يا أيها القوم الذين آمنوا، وأما المصدر فكقوله تعالى: {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} تقديره: ومن تاب وعمل عملا صالحا.
وقد أقيمت الصفة الشبيهة بالجملة مقام الموصوف المبتدأ في قوله تعالى: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك} أي: قوم دون ذلك.
وأما حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها، فإنه أقل وجودا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، ولا يكاد يقع في الكلام إلا نادرا، لمكان استبهامه.
فمن ذلك ما حكاه سيبويه رحمه الله من قولهم: سير عليه ليل، وهم يريدون ليل طويل، وإنما حذفت الصفة في هذا الموضع لما دل من الحال عليه، وذاك أنه يحسن في كلام القائل لذلك من التصريح والتطويح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله: طويل، وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته، وهو أن يكون في مدح إنسان والثناء عليه فتقول: كان والله رجلا أي رجلا فاضلا، أو شجاعا أو كريما، أو ما جرى هذا المجرى من الصفات، وكذلك تقول: سألناه فوجدناه إنسانا أي إنسانا سمحا أو جوادا، أو ما أشبهه، فعلى هذا ونحوه تحذف الصفة، فأما إن عريت عن الدلالة عليها من اللفظ أو الحال فإن حذفها لا يجوز.
وقد تأملت حذفها فوجدته لا يسوغ إلا في صفة تقدمها ما يدل عليها، أو تأخر عنها، أو فهم ذلك من شيء خارج عنها.
أما الصفة التي تقدمها ما يدل عليها فقوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} فحذف الصفة: أي كان يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا، ويدل على المحذوف قوله: {فأردت أن أعيبها} فإن عيبه إياها لم يخرجها عن كونها سفينة، وإنما المأخوذ هو الصحيح دون المعيب، فحذفت الصفة هاهنا لأنه تقدمها ما يدل عليها.
وأما التي تأخر عنها ما يدل عليها فقول بعض شعراء الحماسة:
كل امرئ ستئيم من ** ه العرس أو منها يئيم

فإنه أراد كل امريء متزوج، إذ دل عليه ما بعده من قوله: ستئيم منه أو منها يئيم إذ لا تئيم هي إلا من زوج ولا يئيم هو إلا من زوجة، فجاء بعد الموصوف ما دل عليه، ولولا ذلك لما صح معنى البيت، إذ ليس كل امريء يئيم من عرس إلا إذا كان متزوجا.
وأما ما يفهم حذف الصفة فيه من شيء خارج عن الكلام فقول النبي: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فإنه قد علم جواز صلاة جار المسجد في غير المسجد من غير هذا الحديث، فعلم حينئذ أن المراد به الفضيلة والكمال، وهذا شيء لم يعلم من نفس اللفظ، وإنما علم من شيء خارج عنه.

.الضرب السادس وهو حذف الشرط وجوابه:

فأما حذف الشرط فنحو قوله تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون} فالفاء في قوله تعالى: {فاعبدون} جواب شرط محذوف لأن المعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخلصوها في غيرها، ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص.
ومن هذا الضرب قوله تعالى: {فمن كان مريضا أو به أذى من رأسه ففدية} أي: فحلق فعليه فدية.
وكذلك قولهم: الناس مجزيون بأعمالهم: إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا: أي إن فعل المرء خيرا جزي خيرا، وإن فعل شرا جزي شرا.
وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى: {ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} تقدير ذلك: فأفطر فعدة من أيام أخر، ولهذا ذهب داود الظاهري إلى الأخذ بظاهر الآية، ولم ينظر إلى حذف الشرط، فأوجب القضاء على المريض والمسافر، سواء أفطر أم لم يفطر.
ومن حذف الشرط قوله تعالى: {يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون} اعلم أن هذه الفاء التي في قول الشاعر: فقد جئنا خراسانا وحقيقتها أنها في جواب شرط محذوف يدل عليه الكلام، كأنه قال: إن صح ما قلتم إن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان وآن لنا أن نخلص، وكذلك هذه الآية، يقول: إن كنتم منكرين للبعث فهذا يوم البعث: أي قد تبين بطلان قولكم.
أما حذف جواب الشرط فكقوله تعالى: {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} فإن جواب الشرط هاهنا محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين، ويدل على المحذوف قوله تعالى: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.

.الضرب السابع وهو حذف القسم وجوابه:

فأما حذف القسم فنحو قولك لأفعلن، أو غير ذلك من الأقسام المحلوف بها.
وأما حذف جوابه فكقوله تعالى: {والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد} فجواب القسم هاهنا محذوف تقديره: ليعذبن، أو نحوه، ويدل على ذلك ما بعده من قوله: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} إلى قوله: {سوط عذاب} ومما يتنظم في هذا السلك قوله تعالى: {ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} فإن معناه ق والقرآن المجيد لتبعثن، والشاهد على ذلك ما بعده من ذكر البعث في قوله: {أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد}.
وقد ورد هذا الضرب في القرآن كثيرا، كقوله تعالى في سورة النازعات: {والنازعات غرقًا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} فجواب القسم هاهنا محذوف، تقديره: لتبعثن أو لتحشرن، ويدل على ذلك ما أتى من بعده من ذكر القيامة في قوله: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} وكذلك إلى آخر السورة.

.الضرب الثامن وهو حذف لو وجوابها:

وذاك من ألطف ضروب الإيجاز وأحسنها فأما حذف لو فكقوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله لذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض} تقديره ذلك إذا لو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق.
وكذلك ورد قوله تعالى: {وما كنت تتلو منه من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} تقديره: إذا لو فعلت ذلك لارتاب المبطلون، وهذا من أحسن المحذوفات.
ومما جاء من ذلك شعرا قول بعضهم في صدر الحماسة:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذا لقام بنصري معشر خشن ** عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

فلو في البيت الثاني محذوفة، لأنها في البيت الأول قد استوفت جوابها بقوله لم تستبح إبلي ثم حذفها في الثاني، وتقدير حذفها إذا لو كنت منهم لقام بنصري معشر خشن، وإذا لو كانوا قومي لقام بنصري معشر حسن.
وأما حذف جواب لو فإنه كثير شائع وذلك كقولك: لو زرتنا لو ألممت بنا، معناه لأحسنا إليك، أو لأكرمناك أو ما جرى هذا المجرى.
ومما ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب} فإن جواب لو هاهنا محذوف، تقديره: لرأيت أمرا عظيما، وحالا هائلة أو غير ذلك مما جرى مجراه.
ومما جاء على نحو من هذا قوله عزوجل: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون} تقديره لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه، وهو وقت صعب شديد تحيط بهم النار من وراء وقدام ولا يقدرون على دفعها عن أنفسهم ولا يجدون ناصرا ينصرهم، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هونه عليهم.
ومما يجري على هذا النهج قوله تعالى: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} فجواب لو في هذا الموضع محذوف، كما حذف في قوله تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} أي: لو أن لي بكم قوة لدفعتكم، أو منعتكم، أو ما أشبهه، وكذلك قوله: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} لكان هذا القرآن.
وهذا الضرب من المحذوفات أظهر الضروب المذكورة وأوضحها، لعلم المخاطب به، لأن قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} يتسارع الفهم فيه إلى أن الكلام يحتاج إلى جواب.
ومما جاء منه شعرا قول أبي تمام في قصيدته البائية التي يمدح بها المعتصم عند فتحه مدينة عمورية:
لو يعلم الكفر كم من أعصر كمنت ** له العواقب بين السمر والقضب

فإن هذا محذوف الجواب، تقديره: لو يعلم الكفر ذلك لأخذ أهبة الحذار، أو غير ذلك.
واعلم أن حذف هذا الجواب لا يسوغ في أي موضع كان من الكلام وإنما يحذف ما دل عليه مكان المحذوف، ألا ترى أنه قد ورد في القرآن الكريم غير محذوف، كقوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} وهذا ليس كالذي تقدم من الآيات، لأن تلك علم مكان المحذوف منها، وهذه الآية لو حذف الجواب فيها لم يعلم مكانه، لأنه يحتمل وجوها، منها أن يقال: لما آمنوا، أو لطلبوا ما وراء ذلك، وقد تقدم القول في أول باب الإيجاز أنه لا بد من دلالة الكلام على المحذوف.

.الضرب التاسع وهو حذف جواب لولا:

فمن ذلك قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم} فجواب لولا هاهنا محذوف، تقديره: لما أنزل عليكم هذا الحكم بطريق التلاعن وستر عليكم هذه الفاحشة بسببه.
وكذلك ورد قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم} تقديره ولولا فضل الله عليكم ورحمته لعجل لكم العذاب، أو فعل بكم كذا وكذا.

.الضرب العاشر وهو حذف جواب لما وجواب أما:

فأما حذف جواب لما فكقوله تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين} فإن جواب لما هاهنا محذوف وتقديره: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا محذوف، وتقديره: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه إن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله، وما أشبه ذلك مما اكتسباه بهذه المحنة من عظائم الوصف دنيا وآخرة، وقوله: {إنا كذلك نجزي المحسنين} تعليل لتخويل ما خولهما من الفرح والسرور بعد تلك الشدة العظيمة.
وأما حذف جواب أما فنحو قوله تعالى: {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم}.

.الضرب الحادي عشر وهو حذف جواب إذا:

فمما جاء منه قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} ألا ترى كيف حذف الجواب عن إذا في هذا الكلام، وهو مدلول عليه بقوله: {إلا كانوا عنها معرضين} كأنه قال: وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم أعرضوا، ثم قال: ودأبهم الإعراض عن كل آية وموعظة.

.الضرب الثاني عشر حذف المبتدأ والخبر:

أما حذف المبتدأ فلا يكون مفردا، والأحسن هو حذف الخبر، ولأن منه ما يأتي جملة، كقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} وهاهنا قد حذف خبر المبتدأ، وهو جملة من مبتدأ وخبر، وتقديرها: واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر.
ومما ورد منه شعرا قول أبي عبادة البحتري:
كل عذر من كل ذنب ولكن ** أعوز العذر من بياض العذار

وهذا قد حذف منه خبر المبتدأ، إلا أنه مفرد غير جملة، وتقديره كل عذر من كل ذنب مقبول، أو مسموع، أو ما جرى هذا المجرى.

.الضرب الثالث عشر وهو حذف لا من الكلام وهي مرادة:

وذلك كقوله تعالى: {قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف} يريد به تفتؤ: فحذفت لا من الكلام وهي مرادة وعلى هذا جاء قول امريء القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

أي لا أبرح قاعدا، فحذفت لا في هذا الموضع وهي مرادة.
ومما جاء منه قول أبي محجن الثقفي لما نها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن شرب الخمر، وهو إذ ذاك في قتال الفرس بالقادسية:
رأيت الخمر صالحة وفيها ** مناقب تهلك الرجل الحليما

فلا والله أشربها حياتي ** ولا أسقي بها أبدا نديما

يريد لا أشربها فحذف لا من الكلام وإثباتها.
وأحسن حذوفها في المعطوف والمعطوف عليه، وإذا لم يذكر الحرف المعطوف به كان ذلك بلاغة وإيجازا، كقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كان أصحاب رسول الله ينامون ويصلون ولا يتوضئون، أو قال ثم يصلون لا يتوضئون، فقوله لا يتوضئون بحذف الواو أبلغ في تحقيق عدم الوضوء من قوله ولا يتوضئون بإثباتها كأنه جعل ذلك حالة لهم لازمة: أي أنها داخلة في الجملة، وليست جملة خارجة عن الأولى، لأن واو العطف تؤذن بانفراد المعطوف عن المعطوف عليه، وإذا حذفت في مثل هذا الموضع صار المعطوف والمعطوف عليه جملة واحدة.
وقد جاء في القرآن الكريم وذلك أنه يذكر جمل من القول كل واحدة منها مستقلة بنفسها، ثم تسرد سردا بغير عاطف، كقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} تقدير هذا الكلام: لا يألونكم وودوا ما عنتم وقد بدت البغضاء من أفواههم، فلما حذفت الواو جاء الكلام أوجز وأحسن طلاوة وأبلغ تأليفا ونظما، وأمثاله في القرآن الكريم كثير.